ثورة 10 ديسمبر وليس ثورة 14 اكتوبر

ثورة 10 ديسمبر وليس ثورة 14 اكتوبر

احمد حسين باحبيب

يحتفل الجنوبيون اليوم بثورة لم تحصل وهذا الاحتفال جزء لا يتجزا من تغييب وعي الجنوبيين وتزييف تاريخهم. 

هناك أمور كثيرة جرى تزييفها أو تغييبها وخاصة دور ابناء عدن في الثورة الجنوبية. وأنا لا اقصد هنا فقط دور جبهة التحرير والتنظيم الشعبي للقوى الثورية وتحريف تاريخ رابطة ابناء الجنوب والجمعية العدنية فهذه كلها أمور تمت قبل الاستقلال واجيال ما بعد الاستقلال لا تعرف عنها شيئا لأن قيادات الجبهة القومية ترفض نشر الحقائق  ولكن هناك أمور أخرى حصلت بعد الاستقلال لا يعرف عنها الجنوبيون أي شيء أو تم تحريفها وتزييفها بحيث أصبح العميل وطني والوطني عميل. 

من حسن الحظ أننا نعيش الآن في عصر الإنترنت وكاميرات التليفون التي تفضح كل شيء وتكشف كل شيء فاصبحت الأكاذيب معروفة والتزييفات معلومة.  واظن أن هذا سيساعد الناس على فهم ما نقول عن تزييف التاريخ الجنوبي الذي لم يعاصروه لأنهم يشاهدون الآن  بام اعينهم تزييف الحاضر والماضي القريب الذي عاصروه. فمهما ادعى المدعون أنهم حرروا عدن فالحقيقة تظل ناصعة وواضحة أن عدن حررها من الحوثي ابناؤها عندما فر إلى قراهم رجال المحاجي الذين عادوا الآن بدعم من الامارات وعلى ظهور الدبابات والمدرعات  ليفرضوا أنفسهم كمحررين لعدن. وهم بالفعل حرروا عدن  ولكن حرروها من بقعها ومبانيها التي بسطوا عليها فلم تعد لعدن أو لابنائها.  

الثورة هي عمل منظم بقيادة وقواعد واضحة الانتماء والادراك والمهم  ويهدف ذلك العمل الثوري  إلى تحقيق هدف سياسي شأمل.

هدف الثورة الجنوبية كان تحرير عدن ومحميتها الشرقية ومحميتها الغربية أو ما اطلق عليها لاحقها الجنوب العربي  والجنوب اليمني وخلق دولة موحدة على انقاضها. 

الانتفاضات ضد الاستعمار البريطاني لم تتوقف منذ أن وطأت قدماه أرض الجنوب. 

لكن سياسة بريطانيا الشهيرة (فرق تسد)  تمكنت من منع قيام ثورة موحدة ضد الاستعمار. لذلك كنا نشاهد انتفاضة هنا أو تمردا مسلحا  هناك في السلطنة أو المشيخة أو الامارة الفلانية ولكن ذلك لم يكن يرقى إلى ثورة لعدم مشاركة المناطق الأخرى في نفس السلطنة أو المشيخة أو الامارة  ناهيك عن مشاركة ابناء السلطنات أو المشيخات أو الامارات الأخرى.

منع الاستعمار البريطاني قيام كيان  سياسي موحد في الجنوب بقيادة موحدة  أو نظام حكم  يحكم كل الجنوب حتى ولو كان هذا الكيان الموحد مستعمرة أو محمية كما فعل في كثير من دول آسيا وافريقيا. بل أن الاستعمار البريطاني مارس سياسة تمزيق الممزق فساهم في قيام العوالق العليا والعوالق السفلى والعواذل العليا والعواذل السفلى ويافع العليا ويافع السفلي وحضرموت الساحل وحضرموت الداخل (السلطنتين الحضرميتين القعيطي والكثيري). بل أنه في منطقة صغيرة محيطة بلحج العبدلية كانت هناك عدة امارات ومشيخات كالضالع والحواشب وردفان.

بينما كانت الانتفاضات في مناطق الداخل ( محمية عدن الشرقية ومحمية عدن الغربية)  تاخذ طابع انتفاضات مسلحة قبلية متبعثرة يتم اخمادها بسرعة  وليس لها افق وطني واحد أو هدف تحريري   أخذت الانتفاضات السلمية في المدينة عدن خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مفهوم التحرير الوطني والاستقلال. يدين الجنوب للعدنيين ببلورة مفهوم الدولة الشاملة والشعب والوطن وهي مفاهيم كانت غريبة بالنسبة للمجتمع القبلي في الأرياف.

لذلك كانت شعارات التنظيمات المدنية والنقابية والسياسية التي نشأت في عدن كانت شعارات تحرر وطني بل ومنها نشا مفهوم الجنوب الموحد. 

وعملت الجمعية العدنية، احد هذه التنظيمات، على مفهوم تحرير مستعمرة عدن ومقاومة الهجرة الاجنبية خشية من أن تتحول عدن إلى سنغافورة أخرى  يصبح فيها السكان الاصليين العرب اقلية كما حصل للسكان الاصليين المالاي في سنغافورة الذين ذابوا في طوفان من الهجرة الصينية ومن ثم تم سلخ سنغافورة من دولة ماليزيا.

ورفعت الجمعية العدنية شعار عدن للعدنيين بمعنى عدن لسكانها العرب وليس للمهاجرين من دول الكومنولث البريطاني. وقد تم تشويه هذا الشعار في وقت لاحق من بعض القرويين ضمن الهجوم القروي  الشرس على عدن والعدنيين والادعاء بأن الشعار كان ضد الجنوبيين رغم ان وزراء الجمعية العدنية في حكومة عدن والمجلس التشريعي هم من قام بوضع قوانين تعريب الوظائف وليس تعدينها.

 يكفي ان تلاحظ ما يحصل الآن في عدن لتفهم أن ما يقوم به القرويون الان من تحريف لمطالب ابناء عدن في المساواة  واظهارها كمعاداة لابناء الجنوب الاخرين بينما كل ما يطالب به ابناء عدن أن لا يكونوا غرباء واجانب ومضطهدين  في مدينتهم حيث يأتي أي قروي ويبسط على الوظائف والاراضي والمساكن وينهب ثروات عدن باسم الجنوب وتحت شعار عدن عاصمة الجنوب الابدية وعدن الحبيبة  وعدن للجميع بينما الحقيقة أن عدن ليست للجميع بل للصوص والبلاطجة والمليشيات المسلحة.

دالنفس التحرري في عدن وطبيعة عدن المدنية ادى الى تقارب بين الجنوبيين الذين هاجروا إليها من الأرباف وبدأت تنضج بينهم فكرة الدولة الواحدة والوطن الواحد والبلد الواحد على كل مساحة المناطق التي تحتلها  بريطانيا وهي عدن ومحمية عدن الشرقية والغربية.

اقرا ايضا :هادي.. وتاج راسي


وهكذا تجمعت شخصيات جنوبية عدنية ولحجية وعولقية وحضرمية فيما سمي رابطة ابناء الجنوب تدعو إلى تحرير عدن ومحمياتها تحت مسمى الجنوب العربي. 

رغم ان الرابطة كانت تنظيما سياسيا إلا أنها احتضنت ودعمت بعض الانتفاضات المسلحة  خاصة في العوالق بالإضافة إلى دعمها لسلطان لحج في صراعه مع البريطانيين فليس كل السلاطين والمشايخ والامراء كانوا عملاء لبريطانيا كما يقول تاريخ الجنوب المزيف.. 

وخلال الخمسينات من القرن الماضي  استمرت الانتفاضات المتفرقة في العوالق شرقا ودثينة والعواذل  وردفان ويافع والضالع ولحج  والحواشب غربا مع استمرار غياب الفكر الوطني التحرري. او كما كنا نقول أيام زمان لم تنضج الضروف الموضوعية والذاتية لقيام تنظيم موحد أو جبهة موحدة  تهدف إلى تحرير كل الجنوب سواءا سلميا أو عبر الكفاح المسلح. 

ومع هذا كانت الارهاصات قد بدأت مع قيام الامم المتحدة بالعمل على تصفية الاستعمار. 

جعل ذلك بريطانيا تفكر بجد بخلق كيان موحد في الجنوب يسهل التعامل معه عند تصفية الاستعمار فبدات في لم شمل بعض  الامارات والسلطنات والمشيخات في اتحاد امارات الجنوب العربي ثم اتحاد الجنوب العربي وضم عدن إلى الاتحاد. 

لكن العملية كانت شاقة لأن مفهوم الوطن الواحد لم يكن قد تبلور في الجنوب وخاصة في الريف وكل سكان امارة أو سلطنة أو مشيخة لم يكونوا يفكرون بأنهم جزء من كيان أكبر فالحوشبي ظل حوشبيا أولا والردفاني ردفانيا أولا  والضالعي ضالعيا أولا واليافعي يافعيا أولا والعولقي عولقيا أولا والكثيري كثيريا أولا والقعيطي قعيطيا أولا والعوذلي عوذليا أولا والدثيني  دثينيا اولا والمهري ما هو داري بالباقين. 

لقد كانت بريطانيا أشد حماسا لتوحيد الجنوب من السكان وسلاطينهم وامرائهم وشيوخهم. كانت العملية شاقة ولم تتمكن بريطانيا من خلق كيان موحد ولم يشمل اتحاد الجنوب العربي إلا محمية عدن الغربية  بينما بقت حضرموت (سلطنة الكثيري والقعيطي ) والمهرة  خارج الاتحاد . 

لذلك علينا ان نعرف أن الجنوبيين لم يكونوا يعتبرون أنفسهم شعبا واحدا سواءا شعب الجنوب العربي أو الجنوب اليمني واي إدعاء غير ذلك مغالطة وكذب باثر رجعي. وحتى بعد توحيد الجبهة القومية لكل السلطنات والمشيخات والامارات بقوة السلاح ومنع الانتماء القبلي في اسماء الأشخاص واعطاء ارقاما للمحافظات بدل الاسماء  إلا أن هناك كثير من الحضارم ما زالوا لا يعتبرون أنفسهم جنوبيين والمناطقية في بقية المحافظات ما زالت بخير وعافية.

انحصر العمل السياسي في عدن.  وفي عدن ظهرت مفاهيم الشعب الواحد والدولة الواحدة وكان العدنيون بعكس ما يقوله التاريخ الجنوبي المزور  هم في مقدمة الداعين إلى دولة موحدة وشعب عربي واحد يشمل مستعمرة عدن ومحمياتها. وكانت عدن هي حاضنة كل الأفكار الوحدوية والوطنية وحتى القومية.  

وخلال الخمسينات وبداية الستينات كانت الوفود التي تذهب إلى الأمم المتحدة لإقناع الامم المتحدة بتصفية الاستعمار في عدن والجنوب تشمل اعدادا كبيرة من العدنيين. 

إذا الضروف الذاتية كانت متوفرة نوعا ما في عدن فهناك مجتمع مدني وحراك سياسي ونقابي. لكن الضروف الذاتية لم تكن  ناضجة في بقية مناطق الجنوب بل كانت هناك معارضة لقيام دولة موحدة في سلطنات محمية عدن الشرقية. أما  الذين  قبلوا باتحاد الجنوب العربي في محمية عدن الغربية فلم تكن لديهم لا الخبرة ولا الفهم  السياسي لمعنى دولة  ولا الرغبة في التنازل الكامل للدولة الموحدة.

مع قيام ثورة 26 سبتمبر في الجمهورية العربية اليمنية ومجيء المصريين لدعمها ومع وصول المد العروبي الوحدوي إلى قمته ظهرت الضروف الموضوعية للقيام بثورة واضحة الأهداف في الجنوب وكان للمصريين الفضل في تجميع شتات الجنوبيين وتوجيه بوصلتهم  نحو العمل على تحرير كل الجنوب والتعامل معه ككيان وطني واحد بشعب واحد ودولة واحدة. 

للأسف الشديد تاريخنا الجنوبي تم تزويره. حتى نحن الذين كنا أعضاء وقياديين  في تنظيم الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل شاركنا في عملية التزوير ولا انفي عن نفسي المشاركة في عملية التزوير لأن هذه شهادتي للتاريخ واتحدى أي قيادي سابق  في الجبهة القومية أن يكذب أو ينفي ما ساقوله.

القصة التي نشرتها الجبهة القومية بقيادة قحطان الشعبي أن الجبهة القومية فجرت ثورة في 14 اكتوبر 1963 عندما انصدم راجح بن غالب لبوزة في ردفان مع قوات بريطانية واتحادية بعد عودته من الشمال  قصة كاذبة . اكرر قصة كاذبة ومن تلك اللحظة بدأت عملية تزوير التاريخ الجنوبي.

الجبهة القومية لم تفجر أي ثورة في 14 اكتوبر 1963 من قمم جبال ردفان. حتى إذا اعتبرنا  تلك المعركة الصغيرة التي حصل مثلها عشرات أن لم تكن مئات من قبل، إذا اعتبرناها  بداية الثورة فالجبهة القومية لم تفجرها فراجح بن غالب لبوزة وجماعته لم يكونوا أعضاء في الجبهة القومية ولم ترسلهم الجبهة القومية لبدء الثورة.  

ما حصل كان شبيها بكل الانتفاضات أو المعارك أو المناوشات  العفوية التي كانت تقوم بين بعض القبائل أو الأفراد والقوات البريطانية أو القوات العربية  التابعة لها لاسباب ليس لها علاقة بثورة جنوبية شاملة لتحرير الجنوب. 

وكما قلت سابقا لم يكن مفهوم الجنوب (العربي أو اليمني) قد تبلور بين القبائل الجنوبية. ما قامت به الجبهة القومية هو أنها ادعت في وقت لاحق أنها فجرت الثورة في 14 اكتوبر 1963. وهذا ليس كلامي. في الأمكان العودة إلى كتابات نجيب قحطان الشعبي التي يعترف فيها بهذه الحقيقية.

تواجد القوات المصرية في الجمهرية العربية اليمنية مكن مصر عبدالناصر أن تبدا في عملية تحرير الجنوب كجزء من حربها على الاستعمار في العالم العربي. وبدأت المخابرات المصرية في تدريب ابناء الجنوب وبالتخصيص ابناء عدن على حرب العصابات. 

إذا عدنا إلى مقابلة  صحفية للعدني خليفة عبدالله حسن خليفة حول قنبلة المطار سنكتشف أن العمل الثوري المسلح الهادف إلى تحرير الجنوب كل الجنوب وخلق دولة موحدة لشعب موحد على أرض موحدة اسمها الجنوب العربي (راجع خطاب جمال عبدالناصر الذي طالب فيه الاستعمار البريطاني ان يحمل عصاه ويرحل من أرض الجنوب العربي) سنكتشف أن العمل الثوري المسلح بدأ في 10 ديسمبر 1963 عندما نفذ  المناضل العدني خليفة عبدالله حسن خليفة عملية رمي قنبلة يدوية في مطار عدن على المندوب السامي  

والوفد المرافق له وألحق بهم خسائر فادحة. 

إذا، فثورة الجنوب هي ثورة 10 ديسمبر 1963 وليس ثورة 14 اكتوبر 1963 كما يقول تاريخ الجنوب المزور.

احمد حسين باحبيب

واشنطن العاصمة 

 14 اكتوبر 2021

الآراء في هذا القسم لا تعبر عن وجهة نظر الموقع فهي تعبر عن وجهة نظر كاتبها...

إرسال تعليق

0 تعليقات