اذا لم تكن معي فأنت خائن وعميل

اذا لم تكن معي فأنت خائن وعميل

✍: غازي المفلحي

التعصب وعدم تقبل الآخر وتحويل الخلاف السياسي الى ضغائن واحقاد سلوك تتصف به الشعوب المتخلفه ، ورغم أن الجنوبيين يفاخرون عند الحديث عن انفسهم بأنهم شعب متحضر وواعي خصوصا عندما يقارنون انفسهم بالشماليين ، الا ان تهافت هذا الزعم سرعان ما ينكشف بمجرد ان تستمع او تقرأ مساجلاتهم في مواجهة بعضهم ، فما يدعونه حوارا ليس اكثر من تراشق متبادل بالسباب والشتائم والتهم الجاهزة بالخيانة والعمالة .
هذا التطرف الجامح المتمادي في تخوين وتجريم الرأي المخالف يعيد الى الذاكرة مرحلة محزنه في حياة الشعب الجنوبي ، هي مرحلة حكم الحزب الواحد في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ، عندما كُممت الأفواه وأُطلقت الشعارات من نوع ( لا صوت يعلو فوق صوت الحزب ) ، و (لا يوجد معارضين بل خونه) ، و( الموت لأعداء الشعب ) ، شعارات تم ترديدها وتلقينها للغوغاء حتى اصبحت حقائق لا تقبل الجدل ، وبناء عليها تم اختطاف الآف المواطنين وإخفاءهم وتعذيبهم واكثرهم تمت تصفيتهم دون ان يسأل او يبحث احد عن دليل الخيانة والعمالة التي وصموا بها اذ لم تجر محاكمات اصلا ، وليس ادل على مأساوية ما عاناه الجنوبيون في تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الجنوب ، ان اهالي المخفيين قسرا لم يعرفوا الى الآن كيف كانت نهاية احباءهم او حتى اين هي مراقدهم الأخيرة. يقولون في الأمثال " الحماقة هي ان تكرر نفس التجربة على امل ان تحصل على نتائج مختلفة" ، وما يحدث الآن على مستوى الشارع والنخب من تأثيم وتجريم وإدانه لكل الآراء المخالفة هو نهج مشابه ان لم يكن مماثل لما حصل بالأمس في مرحلة حكم الحزب الواحد ، اللهم ان الذين يمارسون هذا السلوك الشائن المُعيب الآن لم يتمكنوا من السلطة بعد ، لكنهم بنهجهم المتعالي العصبوي المتشنج ضد الراي الآخر يقتفون اثر اسلافهم بتوجيه الوعي الجماعي الى قبول التعامل الوحشي والهمجي مع كل من يخالف رؤيتهم او نهجهم اذا تمكنوا من السلطة في يوم ما .

هل يوجد شخصان متطابقان ؟ حتما لا يوجد ، حتى الأخوة الذين كبروا معا وتربوا في نفس البيئة على يد نفس الأب والأم لا يتطابقون في الإدراك والفهم والتفكير ، وهذا ليس عيبا ولا ممقوتا بل العكس هو الصحيح ، اذ ان تعدد الآراء واختلافها يفتح آفاقا لا متناهية امام المجتمعات لصنع التقدم والرفاهية ، النظريات العلمية تؤكد ذلك بما فيها اعظم نظرية ظهرت حتى الآن في حقل العلوم الإنسانية وهي نظرية "الديالكتيك" او جدل الإنسان الذي يُشكل التناقض واحدا من اهم اركانها ، " ان الجدل بين نقيضين في نفس المحتوى يؤدي دائما الى ميلاد جديد يتجاوز في مضمونه ومحتواه النقيضان السابقان ويتقدمهما ، حاملا هو الآخر بذور تناقضه في ذاته وهكذا في حركة صاعدة لا تتوقف من الماضي الى المستقبل" وهو ما يعني ان وجود النقيض ونقيض النقيض هو شرط دائم وابدي للتقدم والإزدهار والرقي البشري .
 طبقا لهذا تكون محاولة البعض إزالة النقيض او إسكاته او منعه من اداء دوره في المجتمع هو محاولة لوقف التقدم وتعطيل حركة التطور المجتمعي الطبيعي . يؤيد هذا الإستخلاص نتائج التجارب التي شهدتها مجتمعات انسانية في مراحل تاريخية مختلفة ، حيث جرت محاولات لتعليب الناس وحشدهم بالإكراه وراء فكرة معينة بالتزامن مع قمع وكبت كل الأفكار الأخرى البديلة او المناقضة ، واللافت ان جميع هذه المحاولات بغير استثناء ساقت هذه الأنظمة الى نهايات مخفقة آلت بها الى السقوط ، وتجربة الحزب الواحد في مجتمعنا الذي حكم تحت شعار " لا صوت يعلو فوق صوت الحزب " دليل حاسم من واقعنا على هذا الإخفاق . دعوا الف زهرة تتفتح رفع القيود امام حرية التعبيرلم يكن ترفا اذن ، بل كان حلا لمشكلة عانتها البشرية طويلا بسبب ميل البعض الى اجبار الناس على تبني مقولات وافكار ورؤى معلبه وجاهزة ومصيرها جميعا كان الفشل ، اما المجتمعات التي اكتشفت مبكرا الدور الخلاق الذي يلعبه تنوع وإختلاف الافكار والرؤى والمفاهيم في تطور وتقدم المجتمعات اذا تم ادارته بطريقة سلمية ومتحضرة ، فقد قامت بسن القوانين التي تضمن حرية التعبير وتحميها ، وتعاقب كل من يحاول تقييدها او الإنتقاص منها ، بل وجعلتها الركن الأساسي في نظامها العام ، وفي ظله حققت هذه المجتمعات نجاحات مبهرة في جميع مجالات الحياة . نحن الجنوبيون نكرر دائما اننا متحضرون وواعون ، لكن ممارساتنا لا تدل على هذا التحضر والوعي خصوصا في إدراك وفهم الحاجة الى ترسيخ حرية التعبير باعتبارها حق وضرورة انسانية وشرط لازم لصنع التطور والتقدم الذي نحلم به .

يختلف الجنوبيون اليوم في العديد من المسائل المرتبطة بمستقبلهم السياسي ، الفيدرالية او الإنفصال ، الشرعية او المجلس الإنتقالي ، اقليم واحد او اقليمين ، العلاقة مع الحوافش والاصلاح ، العلاقة مع الإمارات ودور الإمارات في الجنوب ، استعادة الدولة او دولة جديده .. الخ .. والكثير من القضايا الأخرى الجوهرية والثانوية ، لكن القاسم المشترك بين هؤلاء الفرقاء هو التطرف في المواقف حيث يتهم كل فريق نقيضه بأنه عميل ومرتزق وخائن ، ويتصدر هذا النهج خصوصا الذين ارتبطوا في يوم ما بنظام الحزب الإشتراكي او الذين لا يزالون يحنون لإستعادة دولة الإشتراكي .
ليس أي من الأخوة الأعداء عميل او مرتزق او خائن ، لكن القيادات في كل فريق وهي تريد ان تضمن ولاء مناصريها والتفافهم حولها ، تقدم نفسها نموذج فريد للوطنية وتبالغ في اضفاء صفات الطهارة والإخلاص على نفسها ، مثلما تبالغ في نعت الاطراف الأخرى بالخيانة والعمالة والإرتزاق ، ومع التكرار والضخ المستمر تتحول هذه الإدعاءات عند كل طرف وفي الوعي العام الى حقائق ثابته ، وتكون هي نفسها التي تؤسس لاحقا لأسوأ العواقب وأوخمها . حدث هذا في الصراعات المتتالية للرفاق في مرحلة حكم الحزب الإشتراكي ، اذ كانوا ما يكادون يطوون صفحة أزمة بتصفية رفاق سابقين أُلصقت بهم تهم العمالة والخيانة ، حتى يدخلون في صراع جديد تُوظف به نفس النعوت والأوصاف ثم تنتهي كسابقتها بتصفية دموية للجناح الأضعف ، وهكذا في سلسلة لا تنتهي من الخلافات فالتخوين فالتصفية .

 الجنوبيون اليوم حتما لا يرغبون في اعادة انتاج هذا الماضي الأليم ، لكن المجادلات والمهاترات والإتهامات المتبادلة بين الفرقاء الجنوبيين التي تنتهي بإلباس الآخر لباس العمالة والخيانة والإرتزاق لا بد ان تؤسس من الآن لصراعات المستقبل التي ستقود المجتمع الجنوبي الى نفس المأزق الذي اوصلهم اليه الرفاق في الماضي القريب .
اذا اراد الجنوبيون ان يؤسسوا لأنفسهم وأبناءهم وأحفادهم مستقبل يفيض بالآمال والطموحات في مجتمع آمن ومتطور ومزدهر فسوف يتوجب عليهم : اولا : ان يتحدوا في مواجهة ادعاءات اي طرف احتكار الوطنية ، وان يحاربوا مجتمعين اي قول او فعل يقلل من وطنية الآخرين او يشكك في اخلاصهم ، فالوطنية ليست رداء يمنحه البعض لنفسه وينزعه عن غيره ، كما انها ليست صكوك غفران يجود بها من يتقمص شخصية "البابا" الوطني على من يشاء ويمنعها عمن يشاء ، بل هي ايمان وانتماء وشعور ذاتي يشترك به ابناء الوطن جميعا ولا يحتاجون فيه الى شهادة حسن سيرة وسلوك من احد .

ثانيا : أن يؤمنوا بأن الوطن ملك لجميع ابناءه يعيشون فيه بحقوق وواجبات متساوية وفرص متكافئة ، لا فضل فيه لأحد على احد ، ولا تمييز فيه او امتياز على اساس ديني او حزبي او مناطقي ، وحتى اسبقية النضال والتضحيات التي يتباهى بها البعض ويتحجج لتبرير الخروج بمكاسب شخصية او مناطقية تفوق ما لغيرهم لا فضل لهم فيها ولا منّه ، فما قاموا به هو واجب وطني وهو شرف لا يتوجب دفع ثمناً له ، فشرف الدفاع عن الأوطان له قيمة في ذاته ، لكن ليس له ثمنا .
 ثالثا : ان يجعلوا من حرية القول والتعبير حقا مقدسا للجميع ، افراد وجماعات ، اغلبية واقلية ، سلطة ومعارضة ، فالجميع على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم ورؤاهم وافكارهم الأبناء المخلصين الأوفياء لوطنهم ، وأي دعوات لإخراس الاصوات او تكميم الأفواه يجب التعامل معها باعتبارها دعوات فاشية وعنصرية وتمييزية ، ونحن نعرف من التجربة ماهي النتائج المدمرة لمثل هذه الممارسات على حاضر المجتمع ومستقبله . التحضر ليس تبجح وادعاء ، بل سلوك تدعمه ثقافة تنبذ العنصرية وتحترم الإنسان وتصون كرامته وحقه في التعبير عن نفسه بحرية ودون خوف ، وهما - اي التحضر والخوف - لا يجتمعان ، فالتحضر من صفات المجتمع الإنساني ، أما الخوف فمن سمات مجتمع الغاب .

إرسال تعليق

0 تعليقات